العثور على آثار الفراعنة السود في شمال السودان
أحمد عثمان
عثرت بعثة فرنسية سويسرية مشتركة بقيادة شارل بونيه على مجموعة من التحف الأثرية المهمة في موقع كرمة جنوب الشلال الثالث في شمال السودان. وجد الآثاريون الذين جاءوا من جامعة جنيف حفرة بداخلها سبعة تماثيل كبيرة الحجم، ترجع إلى ملوك النوبة الذين حكموا إمبراطورية كبيرة في وادي النيل منذ ألفين و500 سنة، واستمرت ألفا و200 سنة، وعرفوا باسم الفراعنة السود.
وجدت الحفرة بين بقايا بعض المعابد النوبية المهدمة التي تطل على نهر النيل، حيث حفظ الكهنة تماثيل ملوكهم. وعندما فتح رجال الآثار الحفرة التي ظلت مغلقة لألفي عام، فوجئوا بالعثور على تماثيل ملوك الفراعين السود المنحوتة من حجر الغرانيت ووجد اسم كل ملك محفوراً خلف قدم كل تمثال.
التماثيل التي يزيد ارتفاع بعضها على مترين، تمثل خمسة من ملوك النوبة، هم: طاهركا وتانوت آمون وسنك آمون وانلا ماني واسفلتا. ويقول بونيه إن المصريين القدماء تعمدوا طمس ذكرى الفراعنة السود وحضارتهم الفريدة من ذاكرة التاريخ. الجدير بالإشارة ان ملوك النوبة أسسوا مملكة كوش القديمة، وتمكنوا من مد سيطرتهم على مناطق شاسعة في وادي النيل، ما بين الخرطوم في السودان وأسوان في مصر. وتبين لرجال الآثار ان حضارة النوبة ترجع إلى خمسة آلاف و500 سنة، وكان لها تأثير كبير على الحضارة الفرعونية في مصر، وكانت بلاد النوبة في الأزمنة القديمة تمتد من شمال الخرطوم في السودان إلى جنوب أسوان في مصر، وتشكل كياناً سياسياً مستقلاً، فتكونت دولة كوش الأولى من مملكة كرمة (2500 ـ 1500 قبل الميلاد) وامتدت حدودها لتشمل مجمل الأرض النوبية في شمال السودان وجنوب مصر. وبعد حوالي خمسة قرون من سقوط مملكة كرمة ظهرت مملكة أخرى بشمال السودان الحالي عرفت باسم مملكة مَرَوي، ولقد تحدث المؤرخون العرب في بداية الدولة الإسلامية، من أمثال ابن حوقل والإدريسي والمقريزي، عن بلاد النوبة في كتاباتهم، ووصفوها بأنها كانت بلاداً غنية تمتاز أرضها بالخصوبة. وبينت الدلائل الأثرية أن مدينة مروي كانت أول مدينة في افريقيا، تتمكن من القيام بعمليات صهر الحديد وتصنيعه. وعام 1940 قام البريطاني آركل بعمل مجسات أرضية في منطقة مروي القديمة، توصل عن طريقها إلى العثور على عدة أكوام من النفايات الناتجة عن تصنيع الحديد، كما تبين له أن معبد الأسد المحلي بني فوق تل من هذه النفايات. كما عثر على منتجات حديدية من الآلات الزراعية والسكاكين والأسلحة والأدوات الطبية، إذ كانت منطقة مروي غنية بخام الحديد الذي وجد بكثرة في جبال الحجر الرملي في النوبة.
أيضا تجدر الإشارة إلى سكن بعض القبائل الافريقية بلاد السودان الواقعة شمال الخرطوم منذ حوالي 30 ألف سنة مضت، وكانت تعيش على صيد الحيوانات وجمع ثمار الأشجار. وتمكنت القبائل السودانية من استئناس الحيوانات الافريقية، منذ العصر الحجري قبل 13 ألف سنة، لكنها لم تعرف الزراعة إلا منذ وصول قبائل بربرية هاجرت من ليبيا إلى النوبة، قبل نهاية الألف الثالثة السابقة للميلاد. اما عن علاقة بلاد السودان مع مصر، فإنها انطلقت منذ أقدم العصور، وكانت البعثات التجارية المصرية تسافر لجلب خيرات افريقيا من النبات والحيوان عن طريق السودان، وظلت كوش تسيطر على طريق التجارة في نهر النيل ما بين وسط القارة الافريقية وشمالها، الى أن احتلها المصريون وجعلوها جزءاً من مملكتهم في أيام الدولة الحديثة منذ 3 آلاف وخمس مائة سنة. وبسبب الثروات الطبيعية السودانية حاول ملوك مصر منذ عصر الأسرة الأولى، مد نفوذهم جنوبا عن طريق إقامة حاميات لتأمين سلامة قوافل التجارة. وكان لاتصال مصر بالسودان تأثير حضاري متبادل بين السكان. وبينما تأثر السودان بالتقنية الزراعية وفنون العمارة المصرية، تأثر المصريون بطرق الفن التشكيلي للسودان وعقائده الدينية.
وتمكن السودان من الاستقلال عن سيطرة مصر بعد سقوط الأسرة السادسة ونهاية عصر بناة الأهرام عام 2081 قبل الميلاد، ولم تعد إليه السلطة المصرية إلا بعد ذلك بقرن من الزمان. وازدادت السيطرة المصرية في عصر الامبراطورية أيام الأسرة الثامنة عشرة، حين وصل المصريون إلى بعد بضعة كيلومترات شمالي الخرطوم، وفي هذه الفترة اعتمد الجيش المصري على المقاتلين السودانيين في حروبه ببلاد الشام.
أطلق المصريون على النوبة عدة أسماء مثل «طاستي» بمعنى «أرض القوس» و«طايم» بمعنى «الأرض الجنوبية» و«وكوش». أما الكتاب اليونان والرومان فسموا النوبة «اثيوبيا» أو «ارض الوجوه المحروقة»، وهو الاسم الذي استخدموه لكل الاراضي الواقعة جنوب مصر.
وكانت بلاد النوبة غنية بالذهب وحجارة البناء والأغنام والماعز والمواشي كبيرة الحجم، وكان أهلها مقاتلين أكفاء، كما كانت تجارة القارة الافريقية تصل إلى مصر عن طريق النوبة من العاج وخشب الأبنوس ومختلف أنواع الطيور والحيوانات وعلى رأسها القط الذي استأنسه المصريون وقدسوه.
وكانت جزيرة فيلة الواقعة وسط مجرى النيل عند الشلال الأول قبالة أسوان، أول المناطق النوبية التي ضمت إلى صعيد مصر منذ عصور ما قبل التاريخ، وأصبحت فيلة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة نقطة الحدود الجنوبية لمصر التي يبدأ عندها الزوار القادمون من افريقيا، وكذلك محطة للتبادل التجاري، ثم مد الملك زوسر صاحب هرم سقارة المدرّج حدود مصر الجنوبية إلى وادي حلفا عند الشلال الثاني، وبدأت سيطرة المصريين على أجزاء من بلاد النوبة حوالي 1950 قبل الميلاد، عندما شيد المصريون القلاع والمعابد لحماية المراكز التجارية وقام سي زوستريس الثالث بمد الحدود المصرية إلى مدينة سمنة جنوب الشلال الثاني. ووضع سي نصرت لوحة عند سمنة، سجل عليها موضع حدوده في النوبة. هذا وعثر الأثريون على معامل لصهر النحاس، عند قلعة بوهن التي أقامها سي نصرت شمال الشلال الثاني ووضع بها حامية عسكرية، إلا ان سيطرة الحكام الهكسوس على مصر التي استمرت حوالي مائة سنة ما بين منتصف القرن 17 وحتى منتصف القرن 16 قبل الميلاد، مكنت النوبة من الاستقلال عن مصر. وفي هذه الفترة، أصبحت مدينة كرمة في منطقة دنقلة، عاصمة لدولة النوبة المستقلة، إلا ان ملوك الأسرة الثامنة عشرة عادوا واستولوا على النوبة، وقام تحتمس الثالث بمد حدوده إلى جبل بركال بالقرب من الشلال الرابع في بلاد السودان. ومنذ هذا التاريخ في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، اعتبر المصريون أن النوبة صارت جزءاً من دولتهم وإن منحوها حكماً ذاتياً، إذ كان يحكمها أمير يعينه الملك يحصل على لقب «ابن الملك للجنوب»، وبسبب شدتهم في القتال، اعتمدت الحكومة المصرية على المجندين النوبيين في تكوين قوات الشرطة أولا ثم استخدمتهم بكثافة في قوات المشاة بالجيش. عندما ضعفت الحكومة المركزية في مصر في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، تمكنت مجموعة من ضباط الجيش المصري من السيطرة على الحكم في البلاد، وفي هذه الأثناء انفصلت النوبة وأسس حكام نباتة عند الشلال الرابع في السودان، مملكة مستقلة، وجاءت نهاية حكم الأسرات الليبية لمصر ـ التي جعلت عاصمتها في تل بسطا شرقي الدلتا ثم في تنيست جنوب بحيرة البرلس ـ عندما استولى «باي» النوبي على عرش مصر. فقد سيطر «باي» أو «بعنخي» أمير نباتة على مقاليد الحكم في مصر، وأسس الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت البلاد حوالي مائة سنة حتى سنة 656 قبل الميلاد، ولما تحالف حكام الدلتا في مواجهته بقيادة أمير سايس، هزمهم بيانخي وأقام لوحة في معبد آمون عند جبل بركال، سجل عليها أخبار انتصاراته.
مات بعنخي بعد حكم استمر 30 سنة ودفن في هرم صغير ودفنت معه أحصنته الخاصة، وخلفه شقيقه شبكا الذي قام بإعادة ترميم المعابد المصرية القديمة، وكان له الفضل في حماية أقدم نص للفلسفة المصرية.
وكان طاهاركا ثالث ملوك النوبة الذين حكموا مصر، إذ جلس على العرش بعد موت شبكا وهو في الثانية والثلاثين واستمر أكثر من ربع قرن، إلا أن طاهاركا أمضى معظم أيام حكمه في صراع حربي مع الآشوريين، الذين صاروا يهددون بالاستيلاء على البلاد. وتمكن طاهاركا من هزيمة جيش الملك الآشوري آسرحدون وإجباره على الانسحاب، إلا ان الملك الآشوري عاود الهجوم على مصر بعد ثلاث سنوات واستولى على منف، ثم تمكن خليفته ؟؟؟ من مد سيطرته إلى طيبة (الأقصر)، فانسحب طاهاركا إلى نباتة في شمال السودان. وعاد طاهاركا فنجح بتحرير الصعيد بمعاونة الأمراء المصريين، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى الدلتا، حيث نصّب الآشوريون ملكاً من قبلهم فانقسمت مصر إلى مملكتين في الجنوب والشمال. وظلت النوبة تشكل كياناً مستقلاً منذ ذلك التاريخ، عاصمتها في نباتة بشمال السودان، ثم انتقلت عاصمة النوبة إلى مدينة مروي منذ بداية القرن الثاني للميلاد، أثناء حكم الأسرة البطلمية (البطلسية) اليونانية في مصر، وعلى الرغم من انتشار المسيحية في مصر منذ بداية التاريخ الميلادي، لم تعتنق النوبة الديانة المسيحية إلا خلال القرن السابع الميلادي، كما تأخر وصول الإسلام إليها حتى القرن الرابع عشر عندما عادت علاقاتها مع مصر بعد 24 قرنا من الاستقلال.
منقول للفائدة
وجدت الحفرة بين بقايا بعض المعابد النوبية المهدمة التي تطل على نهر النيل، حيث حفظ الكهنة تماثيل ملوكهم. وعندما فتح رجال الآثار الحفرة التي ظلت مغلقة لألفي عام، فوجئوا بالعثور على تماثيل ملوك الفراعين السود المنحوتة من حجر الغرانيت ووجد اسم كل ملك محفوراً خلف قدم كل تمثال.
التماثيل التي يزيد ارتفاع بعضها على مترين، تمثل خمسة من ملوك النوبة، هم: طاهركا وتانوت آمون وسنك آمون وانلا ماني واسفلتا. ويقول بونيه إن المصريين القدماء تعمدوا طمس ذكرى الفراعنة السود وحضارتهم الفريدة من ذاكرة التاريخ. الجدير بالإشارة ان ملوك النوبة أسسوا مملكة كوش القديمة، وتمكنوا من مد سيطرتهم على مناطق شاسعة في وادي النيل، ما بين الخرطوم في السودان وأسوان في مصر. وتبين لرجال الآثار ان حضارة النوبة ترجع إلى خمسة آلاف و500 سنة، وكان لها تأثير كبير على الحضارة الفرعونية في مصر، وكانت بلاد النوبة في الأزمنة القديمة تمتد من شمال الخرطوم في السودان إلى جنوب أسوان في مصر، وتشكل كياناً سياسياً مستقلاً، فتكونت دولة كوش الأولى من مملكة كرمة (2500 ـ 1500 قبل الميلاد) وامتدت حدودها لتشمل مجمل الأرض النوبية في شمال السودان وجنوب مصر. وبعد حوالي خمسة قرون من سقوط مملكة كرمة ظهرت مملكة أخرى بشمال السودان الحالي عرفت باسم مملكة مَرَوي، ولقد تحدث المؤرخون العرب في بداية الدولة الإسلامية، من أمثال ابن حوقل والإدريسي والمقريزي، عن بلاد النوبة في كتاباتهم، ووصفوها بأنها كانت بلاداً غنية تمتاز أرضها بالخصوبة. وبينت الدلائل الأثرية أن مدينة مروي كانت أول مدينة في افريقيا، تتمكن من القيام بعمليات صهر الحديد وتصنيعه. وعام 1940 قام البريطاني آركل بعمل مجسات أرضية في منطقة مروي القديمة، توصل عن طريقها إلى العثور على عدة أكوام من النفايات الناتجة عن تصنيع الحديد، كما تبين له أن معبد الأسد المحلي بني فوق تل من هذه النفايات. كما عثر على منتجات حديدية من الآلات الزراعية والسكاكين والأسلحة والأدوات الطبية، إذ كانت منطقة مروي غنية بخام الحديد الذي وجد بكثرة في جبال الحجر الرملي في النوبة.
أيضا تجدر الإشارة إلى سكن بعض القبائل الافريقية بلاد السودان الواقعة شمال الخرطوم منذ حوالي 30 ألف سنة مضت، وكانت تعيش على صيد الحيوانات وجمع ثمار الأشجار. وتمكنت القبائل السودانية من استئناس الحيوانات الافريقية، منذ العصر الحجري قبل 13 ألف سنة، لكنها لم تعرف الزراعة إلا منذ وصول قبائل بربرية هاجرت من ليبيا إلى النوبة، قبل نهاية الألف الثالثة السابقة للميلاد. اما عن علاقة بلاد السودان مع مصر، فإنها انطلقت منذ أقدم العصور، وكانت البعثات التجارية المصرية تسافر لجلب خيرات افريقيا من النبات والحيوان عن طريق السودان، وظلت كوش تسيطر على طريق التجارة في نهر النيل ما بين وسط القارة الافريقية وشمالها، الى أن احتلها المصريون وجعلوها جزءاً من مملكتهم في أيام الدولة الحديثة منذ 3 آلاف وخمس مائة سنة. وبسبب الثروات الطبيعية السودانية حاول ملوك مصر منذ عصر الأسرة الأولى، مد نفوذهم جنوبا عن طريق إقامة حاميات لتأمين سلامة قوافل التجارة. وكان لاتصال مصر بالسودان تأثير حضاري متبادل بين السكان. وبينما تأثر السودان بالتقنية الزراعية وفنون العمارة المصرية، تأثر المصريون بطرق الفن التشكيلي للسودان وعقائده الدينية.
وتمكن السودان من الاستقلال عن سيطرة مصر بعد سقوط الأسرة السادسة ونهاية عصر بناة الأهرام عام 2081 قبل الميلاد، ولم تعد إليه السلطة المصرية إلا بعد ذلك بقرن من الزمان. وازدادت السيطرة المصرية في عصر الامبراطورية أيام الأسرة الثامنة عشرة، حين وصل المصريون إلى بعد بضعة كيلومترات شمالي الخرطوم، وفي هذه الفترة اعتمد الجيش المصري على المقاتلين السودانيين في حروبه ببلاد الشام.
أطلق المصريون على النوبة عدة أسماء مثل «طاستي» بمعنى «أرض القوس» و«طايم» بمعنى «الأرض الجنوبية» و«وكوش». أما الكتاب اليونان والرومان فسموا النوبة «اثيوبيا» أو «ارض الوجوه المحروقة»، وهو الاسم الذي استخدموه لكل الاراضي الواقعة جنوب مصر.
وكانت بلاد النوبة غنية بالذهب وحجارة البناء والأغنام والماعز والمواشي كبيرة الحجم، وكان أهلها مقاتلين أكفاء، كما كانت تجارة القارة الافريقية تصل إلى مصر عن طريق النوبة من العاج وخشب الأبنوس ومختلف أنواع الطيور والحيوانات وعلى رأسها القط الذي استأنسه المصريون وقدسوه.
وكانت جزيرة فيلة الواقعة وسط مجرى النيل عند الشلال الأول قبالة أسوان، أول المناطق النوبية التي ضمت إلى صعيد مصر منذ عصور ما قبل التاريخ، وأصبحت فيلة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة نقطة الحدود الجنوبية لمصر التي يبدأ عندها الزوار القادمون من افريقيا، وكذلك محطة للتبادل التجاري، ثم مد الملك زوسر صاحب هرم سقارة المدرّج حدود مصر الجنوبية إلى وادي حلفا عند الشلال الثاني، وبدأت سيطرة المصريين على أجزاء من بلاد النوبة حوالي 1950 قبل الميلاد، عندما شيد المصريون القلاع والمعابد لحماية المراكز التجارية وقام سي زوستريس الثالث بمد الحدود المصرية إلى مدينة سمنة جنوب الشلال الثاني. ووضع سي نصرت لوحة عند سمنة، سجل عليها موضع حدوده في النوبة. هذا وعثر الأثريون على معامل لصهر النحاس، عند قلعة بوهن التي أقامها سي نصرت شمال الشلال الثاني ووضع بها حامية عسكرية، إلا ان سيطرة الحكام الهكسوس على مصر التي استمرت حوالي مائة سنة ما بين منتصف القرن 17 وحتى منتصف القرن 16 قبل الميلاد، مكنت النوبة من الاستقلال عن مصر. وفي هذه الفترة، أصبحت مدينة كرمة في منطقة دنقلة، عاصمة لدولة النوبة المستقلة، إلا ان ملوك الأسرة الثامنة عشرة عادوا واستولوا على النوبة، وقام تحتمس الثالث بمد حدوده إلى جبل بركال بالقرب من الشلال الرابع في بلاد السودان. ومنذ هذا التاريخ في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، اعتبر المصريون أن النوبة صارت جزءاً من دولتهم وإن منحوها حكماً ذاتياً، إذ كان يحكمها أمير يعينه الملك يحصل على لقب «ابن الملك للجنوب»، وبسبب شدتهم في القتال، اعتمدت الحكومة المصرية على المجندين النوبيين في تكوين قوات الشرطة أولا ثم استخدمتهم بكثافة في قوات المشاة بالجيش. عندما ضعفت الحكومة المركزية في مصر في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، تمكنت مجموعة من ضباط الجيش المصري من السيطرة على الحكم في البلاد، وفي هذه الأثناء انفصلت النوبة وأسس حكام نباتة عند الشلال الرابع في السودان، مملكة مستقلة، وجاءت نهاية حكم الأسرات الليبية لمصر ـ التي جعلت عاصمتها في تل بسطا شرقي الدلتا ثم في تنيست جنوب بحيرة البرلس ـ عندما استولى «باي» النوبي على عرش مصر. فقد سيطر «باي» أو «بعنخي» أمير نباتة على مقاليد الحكم في مصر، وأسس الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت البلاد حوالي مائة سنة حتى سنة 656 قبل الميلاد، ولما تحالف حكام الدلتا في مواجهته بقيادة أمير سايس، هزمهم بيانخي وأقام لوحة في معبد آمون عند جبل بركال، سجل عليها أخبار انتصاراته.
مات بعنخي بعد حكم استمر 30 سنة ودفن في هرم صغير ودفنت معه أحصنته الخاصة، وخلفه شقيقه شبكا الذي قام بإعادة ترميم المعابد المصرية القديمة، وكان له الفضل في حماية أقدم نص للفلسفة المصرية.
وكان طاهاركا ثالث ملوك النوبة الذين حكموا مصر، إذ جلس على العرش بعد موت شبكا وهو في الثانية والثلاثين واستمر أكثر من ربع قرن، إلا أن طاهاركا أمضى معظم أيام حكمه في صراع حربي مع الآشوريين، الذين صاروا يهددون بالاستيلاء على البلاد. وتمكن طاهاركا من هزيمة جيش الملك الآشوري آسرحدون وإجباره على الانسحاب، إلا ان الملك الآشوري عاود الهجوم على مصر بعد ثلاث سنوات واستولى على منف، ثم تمكن خليفته ؟؟؟ من مد سيطرته إلى طيبة (الأقصر)، فانسحب طاهاركا إلى نباتة في شمال السودان. وعاد طاهاركا فنجح بتحرير الصعيد بمعاونة الأمراء المصريين، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى الدلتا، حيث نصّب الآشوريون ملكاً من قبلهم فانقسمت مصر إلى مملكتين في الجنوب والشمال. وظلت النوبة تشكل كياناً مستقلاً منذ ذلك التاريخ، عاصمتها في نباتة بشمال السودان، ثم انتقلت عاصمة النوبة إلى مدينة مروي منذ بداية القرن الثاني للميلاد، أثناء حكم الأسرة البطلمية (البطلسية) اليونانية في مصر، وعلى الرغم من انتشار المسيحية في مصر منذ بداية التاريخ الميلادي، لم تعتنق النوبة الديانة المسيحية إلا خلال القرن السابع الميلادي، كما تأخر وصول الإسلام إليها حتى القرن الرابع عشر عندما عادت علاقاتها مع مصر بعد 24 قرنا من الاستقلال.
منقول للفائدة